كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمقصود أن ما عدمته النفس من كمالها فمنها فإنها لا تقتضى إلا العدم أي عدم استعداد نفسها وقوتها هو السبب في عدم هذا الكمال، فإنه كما يكون أحد الوجودين سببًا للآخر فكذلك أَحد العدمين يكون سببًا لعدم الآخر، والموجود الحادث يضاف إلى السبب المقتضى لإيجاده وأما المعدوم فلا يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل يحدث العدم، بل يكفى في استمراره عدم مشيئة الفاعل المختار له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لانتفاءٍ مشيئته، فانتقاء مشيئة كونه سبب عدمه، وهذا معنى قولهم: عدم علة الوجود علة العدم، وبهذا الاعتبار الممكن القابل للوجود والعدم لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، فمرجح عدمه عدم مرجحه، ومعنى الترجيح والسببية هاهنا الاستلزام لا التأثير كما تقدم، فظهر استحالة إضافة هذا الشر إلى الله عز وجل.
وأما الشر الثانى، وهو الشر الوجودى- كالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة- فهو من لوازم ذلك العدم، فإنه متى عدم ذلك العلم النافع والعمل الصالح من النفس لزم أن يخلفه الشر والجهل وموجبهما ولابد، لأن النفس لابد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالضد النافع الصالح اشتغلت بالضد الضار الفاسد، وهذا الشر الوجودى هو من خلقه تعالى إذ لا خالق سواه، وهو خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه الله فلابد أن يكون له في خلقه حكمة لأجلها خلقه، لو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة، وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن في وجودها من الحكمة والغايات التي يحمد عليها سبحانه أضعاف ما في عدمها من ذلك، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة العظيمة لأجل ما يحصل للنفس من الشر مع ما حصل من الخيرات التي لم تكن تحصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء لا يكون إلا مع وجود لوازمه وانتفاء أضداده، فانتفاء لوازمه يكون ممتنعًا لغيره، وحينئذ فقد يكون هدى هذه النفوس الفاجرة وسعادتها مشروطًا بلوازم لم تحصل، أو بانتفاء أضداد لم تنتف.
فإن قيل: فهلا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد، فهذا هو السؤال الأول، وقد بينا أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالم لابد منها، فلو قدر عدمها لم يكن هذا العالم بل عالمًا آخر ونشأة أخرى وخلقًا آخر، وبينا أن هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلا تجرد الغيث والأنهار عما يحصل به من تغريق وتعويق وتخريب وأذى؟ وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم وأذى؟ وهلا تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلا تجردت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع، هلا تجرد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغير أحواله؟ وهلا تجردت فصول العام عما يحدث فيها من البرد الشديد القاتل والحر الشديد المؤذى؟ فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لم كان المخلوق فقيرًا محتاجًا والفقر والحاجة صفة نقص، فهلا تجرد منها وخلعت عليه خلعة الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقًا إذا كان غنيًا غنى مطلقًا؟ ومعلوم أن لوازم الخلق لابد منها فيها، ولابد للعلو من سفل، والسفل من مركز ولوازم العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات وما هناك من الأرواح العلوية النيرة المناسبة لمحلها وما يليق بها ويناسبها من الابتهاج والسرور والفرح والقوة والتجرد من علائق المواد العلية لابد منها، ولوازم السفل والمركز من الضيق والحصر ولوازم ذلك من الظلمة والغلط والشر وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشريرة وأعمالها وآثارها لابد منها، فهما عالمان علوى وسفلى ومحلان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما، وقد خلق كلا من المحلين معمورًا بأهليه وساكنيه حكمة بالغة وقدرة قاهرة، وكل من هذه الأرواح لا يليق بها غير ما خلقت له مما يناسبها ويشاكلها قال تعالى: {قُلْ كُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أي على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، كما يقول الناس: كل إناءٍ بالذى فيه ينضح، فمن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأعلى فقد أراد ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، ولو أن ملكًا من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم وغرتهم الذين تتناسب أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم في القبح والرداءة والدناءة لقدح الناس في ملكه وقالوا: لا يصلح للملك، فما الظن بمجاورى الملك الأعظم مالك الملوك في داره وتمتعهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم، أفيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما تشاركها فيه بل قد تزيد على الحيوان البهيم وقصرت همتها عليه وأقبلت بكليتها عليه لا ترى نعيمًا ولا لذة ولا سرورًا إلا ما وافق طباعها من كل مأكل ومشرب ومنكح من أين كان وكيف اتفق، فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد، وإلا فالقلب والطبع على شاكله قلوب هذه الحيوانات وطباعها، وربما كانت طباع الحيوانات خيرًا من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير ولهذا جعلهم الله سبحانه شر الدواب فقال تعالى: {إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الصّمّ الْبُكْمُ الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ} [الأنفال: 22- 23]، فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35- 36]، فأَنكر عليهم الحكم بهذا وأخرجه مخرج الإنكار لا مخرج الإخبار لينبه العقول على هذا مما تحيله الفطر وتأْباه العقول السليمة، وقال تعالى: {لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى: {قَلْ هَلْ يَسْتَوَى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] بل الواحد من الخلق لا تستوى أعاليه وأسافله، فلا يستوى عقبه وعينه، ولا رأسه ورجلاه، ولا يصلح أحدهما لما يصلح له الآخر فالله عز وجل قد خلق الخبيث والطيب والسهل والحزن والضار والنافع، وهذه أجزاء الأرض: منها ما يصلح جلاءً للعين ومنها ما يصلح للأتون والنار.
وبهذا ونحوه يعرف كمال القدرة وكمال الحكمة: فكمال القدرة بخلق الأضداد. وكمال الحكمة تنزيلها منازلها ووضع كل منها في موضعه والعالم من لا يلقى الحرب بين قدرة الله وحكمته- فإن آمن بالقدرة قدح في الحكمة وعطلها وإن آمن بالحكمة قدح في القدرة ونقصها- بل يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولها لجميع ما خلقه الله ويخلقه، فكما أنه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته فكذلك لا يكون إلا بحكمته. وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلًا، فيكفيها الإيمان بما تعلم وتشاهد منه، ثم تستدل على الغائب بالشاهد وتعتبر ما علمت بما لم تعلم. وقد ضرب الله الأمثال لعباده في كتابه وبَيَّن لهم ما في لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الذي به حياتهم وأقواتهم وحياة الأرض والدواب وما خلقه لهم من المعادن التي بها صلاح أبدانهم وأقواتهم وصنائعهم من الشر والخير وبين المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك فقال تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رّابِيًا وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ} [الرعد: 17] فأخبر سبحانه أن الماء سبب بمخالطته الأرض إذا سال فلابد من أن يحمل السيل من الغثاءِ والوسخ وغيره زبدًا عاليًا على وجه السيل، فالذى لا يعرف ما تحت الزبد يقصر نظره عليه ولا يرى إلا غثاءً ووسخًا ونحو ذلك ولا يرى ما تحته من مادة الحياة، وكذلك ما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها إذا أوقد عليها في النار ليتهيأ الانتفاع بها خرج منها خبث ليس من جوهرها ولا ينتفع به، وهذا لابد منه في هذا وهذا يجاوزه بصره.
وقد ذم تعالى من ضعفت بصيرته من المنافقين، وعمى عما في القرآن مما به ينال كل سعادة وعلم وهدى وصلاح وخير في الدنيا والآخرة لمن لم يجاوز بصره وسمعه وعود وعيده وبروقها وصواعقها وما أعد الله لأعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه الذي هو- بالإضافة إلى ما فيه من حياة القلوب والأرواح ومن المعارف الإلهية يبين طريق العبودية التي هي غاية كمال العبد، وهو مقصود لتكميل ذلك وتمامه. قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} [البقرة: 17- 20]، فهكذا حال كل من قصر نظره في بعض مخلوقات الرب سبحانه على ما لابد منه من شر جزئى جدًا بالإضافة إلى الخير الكثير، ولو لم تكن في هذه النشأة الإنسانية إلا خاصته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى بها خيرًا ومصلحة، ومن عاداهم- وإن كانوا أضعاف أضعاف أضعافهم- فهم كالقش والزبالة وغثاءِ السيل، لا يعبأُ بكثرتهم ولا يقدح في الحكمة الإلهية، بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفر معه آلاف مؤلفة من النوع الآخر فإنه إذا وجد واحد يوازن البرية ويرجح عليها كان الخير الحاصل بوجوده والحكمة والمصلحة أضعاف الشر الحاصل من وجود أضداده، وأثبت وأنفع وأحب إلى الله من فواته بتفويت ذلك الشر المقابل له، وهذا كالشمس: فإن الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشر المقابل له بها، وأين نفع الشمس وصلاح النبات والحيوان بها من نفع الرسل وصلاح القلوب الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفع سيد ولد آدم وصلاح الأبدان والدين والدنيا والآخرة به؟
وقد ضرب للنفس الإِنسانية وما فيها من الخير والشر مثل بدولاب أَو طاحون شديد الدوران، أي شيء خطفه أَلقاه تحته وأَفسده، وعنده قيِّمة الذي يديره وقد أَحكم أَمره لينتفع به ولا يضر أَحدًا، فربما جاءَ الغر الذي لا يعرف فيتقرب منه فيخرق ثوبه أوبدنه أَو يؤذيه، فإذا قيل لصاحبه: لم لم تجعله ساكنًا لا يؤذى من اقترب منه؟ قال: هذه الصفة اللازمة التي كان بها دولابًا وطاحونًا، ولو جعل على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه. وكذلك إذا أوقدنا نار الأَتون التي تحرق ما وقع فيها وعندها وقاد حاذق يحشوها، فإذا غفل عنها أَفسدت وإذا أَراد أحد أَن يقرب منها نهاه وحذره، فإذا استغفله من قرب منها حتى أَحرقته لم يقل لصاحب النار: هلا قللت حرها لئلا تفسد من يقرب منها وتحرقه؟ فإنه يقول: هذه صفتها التي لا يحصل المقصود منها إلا بها، ولو جعلتها دون ذلك لم تحرق أَحجار الكلس، ولم تطبخ الآجر، ولم تنضج الأَطعمة الغليظة ونحو ذلك، فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خلقت عليها والتى لا تكون نارًا إلا بها، فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن نارًا، وكذلك النفس: فما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها وما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك، فأَما الأُمور العدمية فهى باقية على ما كانت عليه من العدم، والإِنسان جاهل ظالم بالضرورة كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، فإِن الله أَخرجه من بطن أُمه لا يعلم شيئًا والظلم هو النقص، كما قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] أي ما نقص منه شيئًا، وهى ظالمة نفسها فهى الظالمة والمظلومة، إِذ كانت منقوصة من كمالها بعدم الكمالات أَو أَكثرها بها، وتلك أُخرى فصار عدمها مستلزمًا لعدم تلك الكمالات فعظم النقص والتعب كسبه وفقدت من لذاتها وسرورها ونعيمها وبهجتها وروحها بحسب ما فعلت من تلك الكمالات التي لا سعادة لها بدونها، فإِن أَحد الموجودين قد يكون مشروطًا بالآخر فيستحيل وجوده بدونه، لأَن عدم الشرط يستلزم عدم المشروط، فإذا عدمت النفس هذا الكمال المستلزم لكمال آخر مثله أَو أَعلى منه وهى- موصوفة بالنقص الذي هو الظلم والجهل ولوازمها من أَصل الخلقة- صارت متسلزمة للشر، وقوة شرها وضعفه بحسب قوتها وضعفها في ذاتها. وتأَمل أَول نقص دخل على أَبى البشر وسرى إِلَى أَولاده كيف كان من عدم العلم والعزم. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] والنسيان سواءٌ كان عدم العلم أَو عدم الصبر كما فسر بهما هاهنا فهو أَمر عدمى، ولهذا قال آدم لما رأَى ما دخل عليه من ذلك: {رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، فإِنه إذا اعترف خص نفسه- بما حصل لها من عدم العلم والصبر- بالنسيان الذي أَوجب فوات حظه من الجنة، ثم قال: {وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، فإِنه سبحانه لم يغفر السيئات الوجودية فيمنع أَثرها وعقابها ونقى العبد من ذلك وإلا ضرته آثارها ولابد، كآثار الطعام المسموم إِن لم يتداركه المداوى بشرب الترياق ونحوه وإلا ضره ولابد، وإِن لم يرحمه سبحانه بإِيجاد ما به يصلح النفس وتصير عالمة بالحق عاملة به وإِلا خسر.، والمغفرة تمنع الشر، والرحمة توجب الخير، والرب سبحانه إن لم يغفر للإِنسان فيقيه السيئات ويرحمه فيؤتيه الحسنات وإِلا هلك ولابد، إذ كان ظالمًا لنفسه ظلومًا بنفسه، فإِن نفسه ليس عندها خير يحصل لها منها، وهى متحركة بالذات فإِن لم تتحرك إلى الخير تحركت إلى الشر فضرت صاحبها، وكونها متحركة بالذات من لوازم كونها نفسًا لأَن ما ليس حساسًا متحركًا بالإِرادة فليس نفسًا، في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّام»، فالحارث الكاسب العامل، والهمام الكثير الهم والهم مبدأُ الإرادة فالنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وإلا وقعت في الإِرادة الفاسدة والعمل الضار، وقد قال تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19- 22]، فأَخبر تعالى أَن الإنسان خلق على هذه الصفة، وإن من كان على غيرها فلأَجل ما زكاه الله به من فضله وإِحسانه.
وقال تعالى: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، قال طاووس ومقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساءِ. وقال الحسن: هو خلقه من ماءٍ مهينٍ.
وقال الزجاج: ضعف عزمه عن قهر الهوى.
والصواب أَن ضعفه يعم هذا كله، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر: فَإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أَسرع من السيل في صيب الحدود. فبالإِضطرار لابد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أَقرب إليه من نفسه. وخلقه على هذه الصفة هو من الأُمور التي يحمد عليها الرب جل جلاله ويثنى عليه بها. وهو موجب حكمته وعزته، فكل ما يحدث من هذه الخلقة ويلزم عنها فهو بالنسبة إلى الخالق عز وجل خير وعدل وحكمة، إِذ مصدر هذه الخلقة عن صفات كماله من غناه وعلمه وعزته وحكمته ورحمته، وبالنسبة إِلى العبد تنقسم إِلى خير وشر وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية وبرًا وفجورًا، بل أَخص من ذلك، مثل كونها صلاة وصيامًا وحجًا وزكاة وسرقة وأْكلًا وشربًا، إِذ ذلك موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه، وموجب أَمر الله له ونهيه، ولله سبحانه الحكمة البالغة والنعمة السابغة والحمد المطلق على تجميع ما خلقه وأَمر به، وعلى ما لم يخلقه مما لو شاءه لخلقه، وعلى توفيقه الموجب لطاعته وعلى خذلانه الموقع في معصيته، وهو سبقت رحمته غضبه وكتب على نفسه الرحمة، وأحسن كل شيء خلقه وأتقن كل ما صنع وما يحصل للنفوس البشرية من الضرر والأذى فله في ذلك سبحانه أعظم حكمة مطلوبة وتلك الحكمة إِنما تحصل على الوجه الواقع المقدر بما خلق لها من الأَسباب التي لا تنال غاياتها إِلا بها، فوجود هذه الأَسباب بالنسبة إلى الخالق الحكيم سبحانه هو من الحكمة، ولهذا يقرن سبحانه في كتابه بين اسمه الحكيم واسمه العليم تارة وبين اسمه العزيز تارة كقوله: {وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] [الأنفال: 71]، {وَالله عَزِيز حَكِيمٌ} [البقرة: 240] [المائدة: 38]، وقوله: {وَكَانَ اللهُ عزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158، 165] [الفتح: 7، 19]، {وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 170] [الفتح: 4]، {وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]